فصل: مطلب تخصيص الأمة المحمدية بالرحمة والأمور الشاقة على أهل الكتابين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا تواضع منه إلى ربه وتسليم إليه، أي وأهلكتنى أيضا حين طلبت منك الرؤية التي أدت إلى طلبهم إياها وكان لحقه وهم من أن يتهمه بنو إسرائيل بقتلهم لأنهم قوم بهت ظنّان، وصار يتضرع إلى ربه ويبكى ويقول: {أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ} عبدة العجل الظالمون {مِنَّا} دون رضا واختيارنا، لا يا رب لا تفعل ذلك ولا تأخذنا بذنب غيرنا وأنت لا تقاصص أحد إلا بما اقترفه، وصار يردد أقوالا كهذه، وهو يعلم أن البلاء يعم الصالح والطالح لأن الصالح إذا لم يردع الطالح يكون راضيا بعمله فيستحق الجزاء من هذه الحيثية ولهذا البحث صلة في الآية 24 من سورة الأنفال في ج 3، لأن المسبب للذنب والحاث عليه والمهيء أسبابه يعاقب كالفاعل في شريعته، وفي شريعتنا يعاقب لكن ليس كالفاعل، ولهذا دأب يتحنّن ويستعطف ربه بإحيائهم حتى أحياهم له جميعهم بمنه وفضله، ولما اطمأن بحياتهم وقد أخذ منه الخوف مأخذه قال في حال شدته وارتعاده {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} اختبارك وما افتتن أولئك الجهال إلا بمحنتك وابتلائك لعبادك وهذه الفتنة {تُضِلُّ بِها} عن طريقك السوي {مَنْ تَشاءُ} إضلاله فيضل وفاقا لما هو في علمك الأزلي {وَتَهْدِي بها مَنْ تَشاءُ} هدايته فيهتدي طبقا لما هو مكتوب في أزلك {أَنْتَ وَلِيُّنا} لا ولي لنا غيرك ولا مرجع لنا في كشف مصابنا إلاك {فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ 155} فضلا منك، وغيرك قد لا يغفر إلا لغرض ولا يعفو إلا لعوض، وذلك بمحض اللطف منك، والناس لطلب السمعة والرياء ونشر الصيت أو لدفع ضر حاضر أو لأمل مستقبل، طلب عليه السلام المغفرة له لإقدامه على الحضرة المقدسة بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} ولقومه لجرأتهم على طلب الرؤية، وقد سمعوا ما وقع عليه من أجلها {وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً} بالحياة الطيبة فيها {وَفِي الْآخِرَةِ} حسنة أيضا وحذفت من الثانية لدلالة الأولى عليها وقد تقدم مثله في الآية 17 من سورة ق المارة وبعدها كثير، ومن هنا فما بعد أكثر أي المثوبة الحسنى وهي الجنة {إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ} تبنا توبة نصوحا من أن نسألك ما لا ترضى وما لا يجوز طلبه، مشتق من هاد إذا رجع وتاب قال:
إني امرؤ مما جنيت هائد ** ربي اغفر إني إليك عائد

ولهذا ومنذ ذلك اليوم سمو يهودا، وقيل كانوا يدعون بأسباطهم، وما قيل أن منهم من اسمه يهوذا كان ملكا وسموا باسمه، فهو بعد هذا لأنهم قبله كانوا عبيدا {قالَ} تعالى يا موسى قل لقومك هذا الحكم الذي فضيته عليهم بقبول التوبة هو {عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ} لا اعتراض لأحد عليّ فيما أفعل، ولا راد لحكمي فيما أحكم، وفيه إشارة إلى غلظ عقوبة عابدي العجل، لأنه القتل كما سيأتي في الآية المنوه بها آنفا من سورة البقرة.
واعلم يا موسى كما أن عذابي شديد فإن عفوي عظيم {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} وفيها إعلام بشمول رحمته قبول عذر المعتذرين وفي نسبة العذاب بصيغة المضارع، ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضى الذات، والعذاب مقتضى معاصي العباد، والمشيئة معتبرة في جانب الرحمة أيضا.
أما عدم التصريح بها فقيل تعظيما لأمر الرحمة، وقيل إشعار بغاية ظهورها، ولما نزلت هذه الآية بلفظها العام قال إبليس عليه اللعنة! أنا شيء أيضا يريد بذلك شموله بالرحمة، أخزاه اللّه، وتطاولت نفسه الخبيثة إليها فنزع ذلك من وهم قوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الكفر وللفواحش {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ} لعيالي، وخص الزكاة بالذكر مع دخولها في معنى التقوى تعريضا لقوم موسى لأن إنفاق المال عليهم شاق لشدة حرصهم ومزيد حبهم للدنيا {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ 156} لا يجحدون شيئا منها أبدا، فأيس الخبيث من هذه الرحمة، ثم طمحت نفوس أهل الكتابين فقالوا نحن نتقي ونزكي ونؤمن باللّه فنزع اللّه منهم هذا الظن بقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ} محمدا بدليل وصفه في قوله: {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} ولا نبي أمي غيره.

.مطلب تخصيص الأمة المحمدية بالرحمة والأمور الشاقة على أهل الكتابين:

ثم أكد وصفه بقوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} سأبين تعريفه وما يتعلق به في الآية 104 من سورة آل عمران في ج 3 ليعملوا به {وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} ليجتنبوه وسيأتي تفسير هناك أيضا {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ} من كل ما استطابته النفس عدا ما نص على تحريمه، وهو عام في كل طيب، والمراد هنا لحوم الإبل وشحوم الغنم والمعز والبقر لأهل الكتاب، والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام للعرب، وتشمل كل ما حرموه على أنفسهم مما هو في التوراة والإنجيل وما هو من عندياتهم ومفترياتهم وسيأتي تفصيل هذا في الآية 136 من سورة الأنعام في ج 2 والآية 102 من المائدة والآية 93 من آل عمران في ج 3 {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ} كالميتة والد ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير اللّه والربا والرشوة والخمر والميسر، وكل ما خبث من الفعل والقول والعمل {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} التكاليف الشاقة، كقطع عضو المذنب في غير السرقة، وعدم قبول التوبة إلّا بالقتل، وقطع الثوب المتنجس، وإحراق الغنائم، وتعيين القصاص في الخطأ، وعدم قبول الدية، وعدم قبول العفو، وعدم جواز الصلاة إلا في الكنائس، ومؤاخذة المتسبب كالفاعل، وتحريم العمل يوم السبت والأحد، وعدم التطهير بغير الماء، وحرمة أكل الصائم بعد النوم، ومنع الطيبات عنهم بما اكتسبوا من الذنوب، وغير ذلك {وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ} المتقدم ذكرها، المقيدين بها الموجودة في التوراة لأن الإنجيل لا أحكام فيه غير تحليل بعض ما حرم على اليهود لقوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} في الآية 50 من آل عمران في ج 3، ولهذا فإن النصارى تابعون في الأحكام إلى التوراة، قال عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلّوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعا للّه تعالى وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية ليحبس نفسه على العبادة وذلك قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ} بهذا الرسول الموصوف بالأوصاف المذكورة وهو لا شك محمد صلّى اللّه عليه وسلم {وَعَزَّرُوهُ} عظموه ووقروه {وَنَصَرُوهُ} على أعدائه وعلى إقامة ما جاء به من الدين {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} وهو القرآن العظيم منور القلوب والأخلاق، وإنما قال معه لأنه أنزل مع النبوّة مع جبريل عليه السلام إليه صلّى اللّه عليه وسلم {أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 151} الفائزون بكل خير، الناجون من كل شر، وهذه الرحمة الموصوفة يفوز بها كل مؤمن باللّه متبع رسوله سواء كان من بني إسرائيل أو غيرهم ولا يمكن تخصيصها فيمن كانوا على زمن موسى إلى إرسال عيسى لأنه لا يجوز أن يتبعوا شرائع نبي لم يبعث بل يجوز أن يعتقدوا نبوته حسبما وصفه اللّه في التوراة، كما أنه من المعلوم أن الإنجيل لا وجود له حسا في ذلك الزمن، فيكون المراد منه أمة عيسى الذين سيجدون نعته صلّى اللّه عليه وسلم مكتوبا في الإنجيل الذي سينزله اللّه عليهم، إذ من المحال أن يجدوه قبل نزوله.
وذكره قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي صلّى اللّه عليه وسلم والقرآن الكريم قبل مجيئهما.

.مطلب وصف الرحمة وصفة الرسول في الكتب القديمة:

أما اللاحقون زمانه في هاتين الأمتين فلا تكتب لهم هذه الرحمة إلّا باتباعه بأن يؤمنوا به وينصروه ويعظموه ويتبعوا ما جاء به، وقد وصفه اللّه بأنه الرسول أي الواسطة بينه وبين خلفه لتبليغ أوامره ونواهيه وشرائعه، وبأنه النبي المخبر عن اللّه وهو من أعلى المراتب وأشرفها وصفا، وأنه الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وهذا من أسنى التعظيم وصفا لإتيانه بالقرآن العظيم بأفصح اللغات، ومن أكبر البراهين على رسالته لأنه لو كان يقرأ ويكتب لاتهم بأنه تعلمه من الغير وكتبه عنهم وقرأه عليهم، وهذه النسبة أحسن من النسبة لأم القرى أو إلى الأم بحيث لم يخرج عما ولدته عليه أمه لقوله صلّى اللّه عليه وسلم: نحن أمة أمّية لا نكتب ولا نحسب.
واعلم أن الأمّية كمال مادي يعود نفعه على المعاش وليست بكمال روحي، ولهذا فإنها بحق الرسول كمال لتنزهه عن الصنايع العملية التي هي من أسباب المعاش، أما بحقنا فنقص لاحتياجنا لذلك، ولهذا البحث صلة في الآية 47 من سورة العنكبوت في ج 2 فراجعها تجد تفصيله بصورة أوسع.
روى البخاري عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد اللّه بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفات رسول اللّه في التوراة، فقال أجل إنه موصوف في التوراة ببعض صفته بالقرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب كثير الصياح في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه اللّه حتى يقيم به الملة العوجاء الكافرة لأن الاعوجاج ضدّ الاستقامة بأن تقول لا إله إلا اللّه، ويفتح به أعينا عمياء، وآذانا صما وقلوبا غفلا، لا يصل إليها شيء ينفعها، كأنها في غلاف عن سماع الحق ومثله في رواية البخاري وغيره.
وجاء من حديث أخرجه ابن مسعود وابن عساكر من طريق موسى بن يعقوب الربعي عن سهيل مولى خيثمة قال: قرأت في الإنجيل نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلم، أنه لا قصير ولا طويل، أبيض، ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم، لا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحلب الشاة، ويلبس قميصا مرقوعا.
ومن فعل ذلك فقد بريء من الكبر وهو يفعل ذلك، وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد.
وفي الزبور أيضا راجع الآية 104 وسورة الأنبياء في ج 2، وإنما لم يذكره اللّه هنا لأن بني إسرائيل سابقا ولا حقا يقرأون التوراة والإنجيل فقط، لذلك اقتصر عليهما، ولأن الزبور خلو من الأحكام مقتصر على الأمثال والأدعية، والتنزيه، وجاء من خبر أخرجه البيهقي في الدلائل عن وهب ابن منبه قال: إن اللّه تعالى أوحى في الزبور: يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد، لا أغضب عليه أبدا، ولا يغضبني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته مرحومة، أعطيتهم من النوافل مثلما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتي يوم القيامة، ونورهم مثل نور الأنبياء.
وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الأنبياء قبلهم، يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلها، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم: لا اؤاخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم جعلته لهم أضعافا مضاعفة، ولهم عندي أضعاف مضاعفة، وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا، أو قالوا إنّا للّه وإنّا إليه راجعون الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوني استجبت لهم فإما أن يروه عاجلا وإما أن أصرف عنهم سوءا وإما أن أدخره لهم في الآخرة.
يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي، ومن لقيني وقد كذب محمدا وبما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صبا وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار.
وإلى غير ذلك من الأخبار الناطفة بأنه صلّى اللّه عليه وسلم مكتوب نعته في الكتب السماوية قبل أن يطرأ عليها التبديل والتغيير، ومن راجع الآية 47 من سورة العنكبوت في ج 2 يجد ما يغنيه عن غيرها.

.مطلب عموم رسالته صلّى اللّه عليه وسلم:

قال تعالى: {قُلْ} يا أكمل الرسل لقومك وللخلق أجمع {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ} وحده {وَرَسُولِهِ} محمد {النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ} مما نزل عليه منها ومما نزل على الأنبياء قبله من أسفار وصحف وكتب، وقرأ بعضهم {كلمته} وأراد بأنها عيسى بن مريم تعريضا باليهود، وتنبيها على أن من لم يؤمن به ويعتقد بأنه من روح اللّه وأمه صدّيقة طاهرة عذراء لا يعتبر إيمانه، بل هو كافر لأن من لم يؤمن به على هذه الصفة لم يؤمن بالقرآن ومحمد صلّى اللّه عليه وسلم، وان جاحدهما لا شك بكفره.